أرسل الله نَبِيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى العالمين بشيرًا ونذيرًا، وأَيَّده بالمعجزات الكثيرة الدالة على صدقه، ومن هذه المعجزات أُمِّيَّته، فكونه صلى الله عليه وسلم أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، من أعظم الدلائل على نبوَّته، فهو الذي لم يقرأ كتابًا، ولم يكتب سطرًا، ولم يقل شعرًا، ولم يرتجل نثرًا، يأتي بأعظم دين، وبالقرآن الكريم معجزته الخالدة، الذي تحدَّى به رسول الله صلى الله عليه وسلم العرب، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة والبيان، فعجزوا أن يأتوا بمثله، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38]، ومن ثم فأميته صلى الله عليه وسلم كمالٌ في حَقِه، ومعجزة من معجزاته الشريفة، مع أنها في غيره وصف نقصان.
ولقد إعترف كفار قريش أن القرآن الكريم لا يمكن أن يتأتى لرجل أُمِّيٍّ لا يعرف القراءة ولا الكتابة، فَإدَّعَوْا أن ذلك: {سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24].. وفي السيرة النبوية لابن هشام: أن عتبة بن ربيعة لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليه قول الله تعالى: {حم*تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ*كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:1-3]، إلى أن بلغ قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13]، قال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا، فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم.
وفي رواية ابن إسحاق: فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني وإجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فإعتزلوا، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم.
لقد إقتضت حكمة الله تعالى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمّيّا ً، ولعل الحكمة من ذلك أنه صلوات الله وسلامه عليه لو كان يحسن القراءة والكتابة، لوجد الكفار في ذلك منفذاً للطعن في نبوته، أو الريبة برسالته، وقد جاء تصوير هذا المعنى في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: قد لبثت في قومك يا محمد من قبل أن تأتي بهذا القرآن عمرا لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، وهكذا صفته في الكتب المتقدمة كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف:157]، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما إلى يوم الدين، لا يحسن الكتابة، ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده، بل كان له كُتّاب يكتبون بين يده الوحي والرسائل إلى الأقاليم، وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان نبيكم صلى الله عليه وسلم أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب.
ويقول ابن تيمية: وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]، بين سبحانه من حاله ما يعلمه العامة والخاصة، وهو معلوم لجميع قومه الذين شاهدوه، متواتر عند من غاب عنه، وبلغته أخباره من جميع الناس: أنه كان أميا لا يقرأ كتابا، ولا يحفظ كتابا من الكتب، لا المنزلة ولا غيرها، ولا يقرأ شيئا مكتوبا، لا كتابا منزلا ولا غيره، ولا يكتب بيمينه كتابا، ولا ينسخ شيئا من كتب الناس المنزلة ولا غيرها، ومعلوم أن من يعلم من غيره إما أن يأخذ تلقينا وحفظا، وإما أن يأخذ من كتابه، وهو لم يكن يقرأ شيئا من الكتب من حفظه، ولا يقرأ مكتوبا، والذي يأخذ من كتاب غيره إما أن يقرأه وإما أن ينسخه، وهو لم يكن يقرأ ولا ينسخ ".
لقد تَعَددت الآيات القرآنية التي تُثْبِتُ أُمِّيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتَرُدُّ على الذين يَدَّعُونَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تَعَلَّم هذا القرآن من قراءته في كتب الأولين، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].
¤ أعطيت جوامع الكلم:
من مظاهر عظمة النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته رغم أميته وعدم معرفته للقراءة والكتابة أنه صاحب الحكمة البالغة، واللسان المبين، فقد فضله الله عز وجل على غيره من الأنبياء عليهم السلام بأن أعطاه جوامع الكلم، فكان صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام الموجز، القليل اللفظ الكثير المعاني، وهو ما يسره الله له من البلاغة والفصاحة، وبدائع الحكم ومحاسن العبارات، التي لم تجتمع لأحد قبله ولا بعده، فكان أفصح الناس، وأعذبهم كلاماً، وأحلاهم منطقا، حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ويأسر الأرواح، شهد له بذلك كل من سمعه..
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» رواه مسلم، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّن فصل، يحفظه من جلس إليه، رواه الترمذي.
قال العز بن عبد السلام: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه بعث بجوامع الكلم، وإختصر له الحديث إختصاراً، وفاق العرب في فصاحته وبلاغته، وقال ابن شهاب: بلغني في جوامع الكلم أن الله يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله، وقال سليمان النوفلي: كان صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام القليل يجمع به المعاني الكثيرة..
وعن فصاحته وبلاغته صلى الله عليه وسلم يقول القاضي عياض: وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول، فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف.. أوتى جوامع الكلم، وخُصَّ ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كل أمة منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله.
لا يحتاج العلم بفصاحته وبلاغته صلى الله عليه وسلم إلى شاهد رغم أميته ، وقد زكَّى الله تعالى قوله ونطقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4-3]، ومن ثم فقد كانت أُمِّيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم من دلائل صدقه ونبوته..
المصدر: موقع إسلام ويب.